بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين أما بعد فقد وجه إلي مركز البحوث والدراسات بوزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بدولة قطر الدعوة للمشاركة بالرأي في عرض وحل إشكالية ملحة في عالمنا الآن , فلبيت الدعوة واخترت لهذه الورقة المحور الرابع :
( البعد الفقهي للعنف والفقه المطلوب )
ولما كان موضوع هذا المحور واسعا اخترت منه الكتابة في التعصب المذهبي والتحزب الطائفي والعنصري وأثر ذلك في إذكاء العنف واخترت حلولا عملية لإبعاد هذا التعصب والتخلص منه أو تخفيفه إلى حد كبير , ولا أخفي صعوبة الكتابة في هذا الموضوع فأطرافه متناثرة وفي الوقت نفسه متشابكة :
وقبل أن أبدأ الكتابة أنبه إلى أني لا أكتب لإرضاء أحد ولا لإغضابه , ولكن بتوجيه من إحساسي بمسئوليتي عن تبيين ما أراه في هذه المسألة , فأقول والله المستعان وعليه التكلان .
التعصب المذهبي والطائفي والعنصري
إن للتعصب بكل أنواعه دوراً كبيراً في إيجاد ظاهرة العنف والتطرف , قال صلى الله عليه وسلم : "حبك الشيء يعمي ويصم " رواه أبو داود , ولذلك عمل الإسلام على علاج هذه الظاهرة , وأمر المسلم بالوقوف مع الحق أينما كان حتى يسود المجتمع المسلم الوئام والعدل والإحسان .
قد تطلب المنهج أن تكون هذه الورقة في مقدمة وأربعة مباحث.
المقدمة وفيها تعريف للتعصب .
المبحث الأول في التعصب العنصري وآثاره وموقف الإسلام منه
المبحث الثاني في التعصب الطائفي وآثاره وموقف الإسلام منه
المبحث الثالث في التعصب المذهبي وآثاره وموقف الإسلام منه
المبحث الرابع في طرح أفكار لعلاج هذا التعصب .
المقدمة
التعصب لغة , قال ابن فارس : العين والصاء والباء أصل صحيح واحد يدل على ربط شيء بشيء مستطيلاً أو مستديراً [1].
وفي اللسان : انعصب : اشتد , وعصبه : طواه , والعصابة : العمامة , وكل ما يعصب به الرأس . والعصبة والعصابة : جماعة ما بين العشرين إلى الأربعين.
وقد تعصبوا عليهم إذا تجمعوا , فإذا تجمعوا على فريق آخر قيل : تعصبوا , والعصبي من يعين قومه على الظلم .
والعصبة : الأقارب من جهة الأب ؛ لأنهم يعصبونه أي يحيطون به , والتعصب: المحاماة والمدافعة , وتعصبنا له ومعه : نصرناه [2].
واصطلاحاً : لا يتعدى معناه اللغوي فهو يدور حول الشدة والمحاماة والنصرة , أو هو الانحياز إلى من يحبه أو يؤمن بمبادئه أو بني جنسه , كان على خطأ أو صواب , ونبذ المخالف بقوة وعنف , وتخطئته وعدم اتباعه , ولو كان على صواب واضح . فربما انحصر هذا الميل على المؤالف ونبذ المخالف بالأقوال , وربما امتد إلى أقصاه فتحول إلى طرد المخالف أو قتله آخر الأمر .
المبحث الأول
التعصب العنصري وآثاره وموقف الإسلام منه
ترتكز علاقات الناس بعضهم ببعض على وحدة الأرض التي يعيشون عليها أو وحدة لغة يتفاهمون بها , أو مصالح يجتمعون عليها , أو عنصر وجنس ينحدرون منه .وتشكل هذه الرابطة في الغالب مصدر اتفاق وتناصر بين هؤلاء , ولو أدى ذلك إلى ظلم الغير , فالظلم على رأي هؤلاء ليس الذي يقع ممن تشترك معه في إحدى المقومات السابقة , وإنما يسمى ظلما إذا وقع من غيرهم .
والذي يهمنا في هذا المبحث التعصب الذي ينشأ عن الرابطة الجنسية أو العنصرية , أو بتعبير آخر ( التعصب العنصري ) .
عرفت كثير من الشعوب قبل الإسلام وبعده هذا النوع من التعصب الذي ينحاز فيه الإنسان انحيازاً كاملاً إلى عنصره مظلوماً أو ظالما , وقد عرفه العرب في جاهليتهم , وهذا التعصب قد يتسع حتى يجعل الإنسان ينتصر لقبيلته جميعها من قبيلة أخرى , أو قل من عنصر آخر – ولو كان يجتمع معه نسبا على بعد – ويضيق أحيانا حتى لا يعرف الإنسان فيه إلا نفسه وأسرته .
ولعل أحسن قانون يمثل هذا النوع الأخير جواب أعرابي في الجاهلية عندما سئل : ما هو العدل في نظرك ؟ فأجاب : العدل أن أغير على جاري فأسلب منه ماله , فقيل له : وما الظلم في نظرك ؟ فقال : الظلم أن يغير عليَّ جاري فيسترد مني ماله [3].
هذا هو القانون وهذا هو المعيار الذي يوزن به العدل والظلم في جاهلية العرب, وهو نفسه الذي توزن به هاتان القيمان في جاهلية اليوم , ولا أحسبني بحاجة إلى التدليل على ذلك .
هذا التعصب العنصري كان سائداً عند العرب , حتى إنه يضطرهم إلى التحالف أفراداً وجماعات , وترتب عليه أن ساد الظلم في المجتمع حتى إن شاعرهم يسجل ذلك تعبيراً عن الروح السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه إذ يقول :
جريء متى يظلم يعاقب بظلمه سريعا وإلا يبد بالظلم يظلم[4]
ولا نشك أن وحدة اللغة رباط مهم بين الشعوب وكذلك وحدة المولد والمنشأ والجنس , ووحدة المصالح المشتركة , ولعل أقواها عند التجربة العنصر والجنس, ومع ذلك نجد هذه العوامل زائفة[5] , لا تصمد عند الامتحان ؛ لأن المصالح تتغلب على البقية , والمصالح تتضارب وتتعارض , فعند نقطة ما تجد التفكير في المصلحة الشخصية أو الأسرية أو على الأكثر القبلية أو ما يشابهها عند الذين اندثرت أو كادت تندثر أنسابهم . لهذا نجد الشعوب التي بنت سلوكها وتعاملها مع الآخرين على هذا الأساس , أعني النظر إلى العنصر والجنس , تنظر إلى غيرها نظرة احتقار وامتهان ؛ لأنها تشاهدهم من علو ملاحظة الفرق بينها وبين الآخرين, فهم السادة والآخرون العبيد , وهم الأغنياء يتصرفون في كنوز الأرض, والآخرون فقراء وخدم , وهم – وحدهم – لهم الحق في حياة رغدة ناعمة , والآخرون لا يستحقون ذلك .
قلت هذا التعصب كان سائدا عند العرب كما كان سائدا عند أمم أخرى كانت موجودة في ذلك الوقت , وهو موجود في عالمنا اليوم , ولو أنه يغطى بأغطية – في أغلب الأحيان – لا تحجبه كثيراً .
ومن الأمثلة الواقعية اليوم على التعصب للدم والجنس والعنصر ما نراه عند اليهود الذي احتلوا فلسطين وطردوا أهلها , فهم يدعون أنهم شعب الله المختار , وأن غيرهم ( الجويم ) أي الأمميون الذين لا يجب أن تكون لهم كرامة , وإنما يعاملون معاملة البهائم .
أما أثر هذا الاعتقاد وهذه النظرة فواضح للعيان , فتقتيل الفلسطينيين وطردهم من أرضهم حق لليهود ؛ لأن الفلسطينيين يمثلون خطراً على اليهود , وبما أنهم من ( الجويم ) فهم لا حق لهم في أرض ولا في مال ولا استقلال , وتقتيل رجالهم ونسائهم وأطفالهم مباح لا حرج فيه .
أما قتل يهودي من قبل الفلسطيني – ولو دخل عليه الأول داره بالسلاح – فهو عين الظلم .
موقف الإسلام من التعصب العنصري :
لما بعث الله خاتم الأنبياء والمرسلين – صلى الله عليه وسلم - كان العرب – كما وصفنا سابقا يتصفون بالعنصرية , فكل قبيلة تعتقد أنها أفضل من غيرها , بل أحيانا كل بطن منها يعتقد أنه أعلى وأسمى من غيره من البطون ,وعلى ذلك ساروا في حياتهم , وفي حربهم وسلمهم وثاراتهم .
جاء الإسلام فألغى هذه النعرات , وأوقف هذه النظرات ( يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ) الحجرات / 12 .
فلا يصح – حسب الإسلام –أن يكون ما يظهر من اختلاف الشعوب والقبائل والأجناس سببا للتباغض والتناحر , وإنما يجب أن يكون وسيلة للتعارف والتعاون.
أما الأرض فهي لله يعمرها الإنسان بالخير يورثها الله من يشاء , فلا يجوز أن تتخذ معبوداً , قال تعالى : ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض ) الحج / 65.
ولا يصح في الإسلام التفاخر بالنسب , قال تعالى ( قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين ) التوبة / 24 .
قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - : ( يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئا , ويا بني عبد مناف لا أغني عنكم من الله شيئا , يا عباس بن عبد المطلب ما أغني عنك من الله شيئا , يا فاطمة بنت محمد : سليني ما شئت من مالي , لا أغني عنك من الله شيئا ) متفق عليه .
وقال – عليه الصلاة والسلام - : ( ليس منا من دعا إلى عصبية ) رواه أبو داود , وقد وصف – صلى الله عليه وسلم – العصبية الجاهلية منفراً منها بقوله : ( دعوها فإنها منتنة ) رواه مسلم . وفي صحيح البخاري : ( دعوها فإنها خبيثة ) وذلك في الواقعة التي وقعت في غزوة المريسيع بين مهاجري وأنصاري , فأدت إلى أن نادى كل رجل قومه للنصرة .
وإذا أدخلنا في التعصب العنصري التمييز بين الألوان البشرية , وبين الذكور والإناث فإننا نجد هذا التمييز يتبع ما تحدثنا عنه آنفا من التمييز المبني على الجنس, وقد كان هذا النوع من التعصب موجودا في العرب قبل الإسلام , وعند غيرهم كذلك , , بل لا يزال موجودا إلى يومنا هذا في كثير من البلدان , فما زالت بعض المطاعم في بعض الدول حكراً على لون معين , ممنوع منها الألوان الأخرى .